السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ميزة السيرة النبوية
تجمع السيرة النبوية عدة مزايا تجعل دراستها متعة روحية وعقلية وتاريخية ، كما تجعل هذه الدراسة ضرورية لعلماء الشريعة والدعاة إلى الله والمهتمين بالإصلاح الاجتماعي ، ليضمنوا إبلاغ الشريعة إلى الناس بأسلوب يجعلهم يرون فيها المعتصم الذي يلوذون به عند اضطراب السبل واشتداد العواصف ، ولتتفتح أمام الدعاة قلوب الناس وأفئدتهم ، ويكون الإصلاح الذي يدعو إليه المصلحون ، وأقرب نجحاً وأكثر سدادا .
ونجمل فيما يلي أبرز مزايا السيرة النبوية :
أولاً ـ إنها أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل ، أو عظيم مصلح فقد وصلت إلينا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصح الطرق العلمية وأقواها ثبوتا ـ كما سنرى في بحث مصادر السيرة ـ مما لا يترك مجالاً للشك في وقائعها البارزة وأحداثها الكبرى ، ومما ييسر لنا معرفة ما أضيف إليها في العصور المتأخرة من أحداث أو معجزات أو وقائع أو حى بها العقل الجاهل الراغب في زيادة إضفاء الصفة المدهشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما أراد الله لرسوله أن يكون عليه من جلال المقام وقدسية الرسالة ، وعظمة السيرة .
إن الميزة من صحة السيرة صحة لا يتطرق إليها شك لا توجد في سيرة رسول الله السابقين ، فموسى عليه السلام قد اختلطت عندنا وقائع سيرته الصحيحة بما أدخل عليه اليهود من زيف وتحريف ، ولا نستطيع أن نركن إلى التوراة الحاضرة لنستخرج مها سيرة صادقة لموسى عليه السلام ، فقد أخذ كثير من النقاد الغربيين يشكون في بعض أسفارها ، وبعضهم يجزم بأن بعض أسفارها لهم يكتب في حياة موسى عليه السلام كما وردت في التوراة ، ولذلك ليس أمام المسلم أن يؤمن بشيء من صحة سيرته إلا ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة ، ومثل ذلك يقال في سيرة عيسى عليه السلام ، فهذه الاناجيل المعترف المسيح بمئات السنين ، وقد اختيرت ـ بدون مسوغ علمي ـ من بين مئات الأناجيل التي كانت منتشرة في أيدي المسيحيين يومئذ . ثم إن نسبة هذه الأناجيل لكاتبيها لم يثبت عن طريق علمي تطمئن النفس إليه ، فهي لم ترو بسند متصل إلى كاتبيها ، على أن الخلاف قد وقع أيضاً بين النقاد الغربيين في أسماء بعض هؤلاء الكاتبين من يكونون ؟
وفي أي عصر كانوا ؟
وإذا كان هذا شأن سير الرسل أصحاب الديانات المنتشرة في العالم ، كان الشك أقوى في سيرة أصحاب الديانات والفلاسفة الآخرين الذين يعد أتباعهم بمئات الملايين في العالم ، كبوذا وكونفوشيوس ، فان الروايات التي يتناقلها أتباعهم عن سيرتهم ليس لها أصل معتبر في نظر البحث العلمي ، وإنما يتلقفها الكهان فيما بينهم ، ويزيد فيها كل جبل عن سابقة بما هو من قبيل الأساطير والخرافات التي لا يصدقها العقل النير المتحرر من التعصب لتلك الديانات .
وهكذا نجد أن أصح سيرة وأقواها ثبوتاً متواترا هي سيرة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثانياً ـ إن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة كل الوضوح في جميع مراحلها ، منذ زواج أبيه عبد الله بامه آمنة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم ، فنحن نعرف الشيء الكثير عن ولادته ، وطفولته وشبابه ، ومكسبه قبل النبوة ، ورحلاته خارج مكة ، إلى أن بعثه الله وسولا كريماً ، ثم نعرف بشكل أدق وأوضح وأكمل كل أحواله بعد ذلك سنة فسنة ، مما يجعل سيرته عليه الصلاة والسلام واضحة وضوح الشمس ، كما قال بعض النقاد الغربيين : إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الوحيد الذي ولد على ضوء الشمس .
وهذا ما لم يتيسر مثله ولا قريب منه لرسول الله من رسل السابقين ، فموسى عليه السلام لا نعرف شيئاً قط عن طفولته وشبابه وطرف معيشته قبل النبوة ، نعرف الشيء القليل عن حياته بعد النبوة ، مما لا يعطينا صورة مكتملة لشخصيته ، ومثل ذلك يقال في عيسى عليه السلام ، فنحن لا نعرف شيئاً عن طفولته إلا ما تذكره الأناجيل الحاضرة ، من أنه دخل هيكل اليهود ، وناقش أحبارهم ، فهذه هي الحادثة الوحيدة التي يذكرونها عن طفولته ، ثم نحن لا نعرف من أحواله بعد النبوة إلا ما يتصل بدعوته ، وقليلاً من أسلوب معيشته ، وما عدا ذلك فأمر يغطيه الضباب الكثير .
فأين هذا مما تذكره مصادر السيرة الصحيحة من أدق التفاصيل في حياة رسولنا الشخصية ، كأكله ، وقيام ،وقعوده ، ولباسه ، وشكله ، وهيئته ، ومنطقة ،ومعاملته لأسرته ، وتعبده ، وصلاته ، ومعاشرته لأصحابه ، بل بلغت الدقة في رواة سيرته أن يذكروا لنا عدد الشعرات البيض في رأس ولجيته صلى الله عليه وسلم .
ثالثاً ـ إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكي سيرة انسان أكرمه الله بالرسالة ، فلم تخرجه عن انسانيته ، ولم تلحق حياته بالأساطير ، ولم تضف عليه الألوهية قليلاً ولا كثيراً ، واذا قارنا هذا بما يرويه المسيحيون عن سيرة عيسى عليه السلام ، وما يرويه البوذيون عن بوذا والوثنيون عن آلهتم المعبودة ، اتضح لنا الفرق جلياً بين سيرته عليه السلام وسيرة هؤلاء ، ولذلك أثر بعيد المدى في السلوك الإنساني والاجتماعي لا تباعهم ، فادعاء الألوهية لعيسى عليه السلام الإنساني والاجتماعي لا تباعهم ، فادعاء الألوهية لعيسى عليه السلام ولبوذا جعلهما أبعد منالا من أن يكونا قدوة نموذجية للإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية ، بينما ظل وسيظل محمد صلى الله عليه وسلم المثل النموذجي الإنساني الكامل لكل من أراد أن يعيش سعيداً كريماً في نفسه وأسرته وبيئته ، ومن هنا يقول الله تعالى في كتابة الكريم :