الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، أما بعد:
فمنذ سنوات طويلة وعقود مديدة والحديث دائر والجدل موصول عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وعن دعوته، مؤيدٌ ومعارض، متهمٌ ومدافع.
والذي يلفت النظر في كلام المخالفين للشيخ الذين يُلصقون به أنواع التهم أن كلامهم عار عن الدليل، فليس لما يقولون شاهد من قوله، أو متمسك من كتبه، وإنما هي دعاوى يذكرها المتقدم، ويرددها المتأخر فحسب.
ولا أظن منصفاً إلا وهو يُقر بأن أصح طريق لمعرفة الحقيقة أن يقصد المعين الأول، ويؤخذ من المصدر الأصيل.
وكتب الشيخ موجودة، وكلامه محفوظ، وبالنظر فيه يتحقق صدق ما يشاع عنه أو عدمه، وأما الدعاوى العارية عن البرهان فسرابٌ لا حقيقة له.
وفي هذه الأوراق أسطر يسيرة من كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، منقولة بأمانة من الكتب الموثقة التي جمعت كلامه، ليس لي فيها سوى الترتيب.
وهي تتضمن إجابات من الشيخ - وحده - عن أهم التهم التي يرميه بها مخالفوه، مصرحاً فيها بخلاف ما يزعمون، وأنا على يقين من أنها - بتوفيق الله - ستكون كافية في توضيح الحق لمبتغيه.
وأما المعادون للشيخ المعاندون لدعوته، الدائبون في إشاعة الزور ونشر الكذب فأقول لهم: اربعوا على أنفسكم فإن الحق أبلج، وإن دين الله غالب، والشمس الساطعة لا تُحجب بالأكف.
هذا كلام الشيخ يُفند تلك الدعاوى، ويدحض هاتيك التهم، فإن كان عندكم من كلامه ما يكذبه فأبرزوه ولا تكتموه.. وإلا تفعلوا - ولستم بفاعلين - فإني أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله متجردين من كل هوى أو عصبية، وأن تسألوه - بصدق - أن يريكم الحق ويهديكم إليه، ثم تتفكروا فيما يقول هذا الرجل: هل جاء بغير كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام؟
ثم تفكروا كرة أخرى: هل من سبيل للنجاة سوى قول الصدق وتصديق الحق؟
فإذا ظهر لكم الحق فثوبوا إلى رشدكم، وراجعوا الحق، فإنه خير من التمادي في الباطل، وإلى الله ترجع الأمور.
حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
يحسن في بداية المطاف نقل كلمات موجزة للشيخ محمد ابن عبد الوهاب - رحمه الله - في بيان حقيقة ما يدعو إليه، بعيداً عن سحب الدعايات الكثيفة التي وضعها المخالفون حائلاً بين كثير من الناس وبين تلك الدعوة، فيقول:
( أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ولست، ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم...
بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو ألا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله فإنه لا يقول إلا الحق ) [الدرر السنية:1/38،37].
( وأنا ولله الحمد متبع ولست بمبتدع ) [مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب:5/36].
( وصورة الأمر الصحيح أني أقول: ما يُدعى إلا الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى في كتابه: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وقال في حق النبي : قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً [الجن:21]، فهذا كلام الله والذي ذكره لنا رسول الله ووصانا به،... وهذا الذي بيني وبينكم، فإن ذُكر شيء غير هذا فهو كذب وبهتان ) [الدرر السنية:1/91،90].
المسألة الأولى: إعتقاد الشيخ في حق النبي
يُرمى الشيخ من أعدائه بتهم عُظمى تتعلق باعتقاده في حق النبي وهذه التهم هي ما يأتي:
أولاً: أنه لا يعتقد ختم النبوة في النبي .
هكذا قيل مع أن جميع كتب الشيخ تطفح برد هذه الشبهة وتشهد بكذبها، من ذلك قوله:
( أؤمن بأن نبينا محمداً خاتم النبيين والمرسلين ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته ) [الدرر السنية:1/32].
( فأسعد الخلق وأعظمهم نعيماً وأعلاهم درجة: أعظمهم إتباعاً له وموافقة علماً وعملاً ) [الدرر السنية:2/ 21].
ثانياً: أنه يهضم النبي حقه، ولا يُنزله المنزلة اللائقة به.
وللوقوف على حقيقة هذا المُدَّعى أنقل بعضاً من كلامه الذي صرح فيه بما يعتقده في حق النبي ، حيث يقول:
( لما أراد الله سبحانه إظهار توحيده، وإكمال دينه، وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، بعث محمداً خاتم النبيين وحبيب رب العالمين، وما زال في كل جيل مشهوراً، وفي توراة موسى وإنجيل عيسى مذكوراً، إلى أن أخرج الله تلك الدرة، بين بني كنانة وبني زهرة، فأرسله على حين فترة من الرسل وهداه إلى أقوم السبل، فكان له من الآيات والدلالات على نبوته قبل مبعثه ما يعجز أهل عصره، وأنبته الله نباتاً حسناً، وكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً وأعزهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، حتى سماه قومه الأمين، لما جعل الله فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية ) [الدرر السنية:2/91،90].
( وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه ) [الدرر السنية:1/86].
( وأول الرسل نوح، وآخرهم وأفضلهم محمد ) [الدرر السنية:1/143].
( وقد بين أبين بلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد وعبد الله حتى أتاه اليقين ) [الدرر السنية:2/21].
كما ذكر - رحمه الله - أن مما يستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام: { لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين }: ( وجوب محبته على النفس والأهل والمال ) [كتاب التوحيد:108].
ثالثاً: إنكار شفاعته .
ويتولى الشيخ جواب هذه الشبهة، حيث يقول: ( يزعمون أنا ننكر شفاعة النبي ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نُشهد الله أن رسول الله الشافع المشفَّع، صاحب المقام المحمود، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفِّعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه ) [الدرر السنية:1/63-64].
( ولا ينكر شفاعة النبي إلا أهل البدع والضلال ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى، كما قال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الانبياء:28]، وقال تعالى: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255] ) [الدرر السنية1/31].
ويبين الشيخ سبب ترويج هذه الدعاية الكاذبة فيقول:
( هؤلاء لما ذكرت لهم ما ذكره الله ورسوله وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف من الأمر بإخلاص الدين لله والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا في اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، قالوا لنا: تنقَّصتم الأنبياء والصالحين والأولياء ) [الدرر السنية:2/50].
المسألة الثانية: آل البيت
من جملة التهم الموجهة للشيخ: أنه لا يحب آل البيت النبوي، ويهضمهم حقهم.
والجواب عن ذلك: أن ما زُعم خلاف الحقيقة، بل قد كان رحمه الله معترفاً بما لهم من حق المحبة والإكرام، قائماً به، بل ومنكراً على من لم يكن كذلك، يقول رحمه الله:
( وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله على الناس حقوقاً، فلا يجوز لمسلم أن يُسقط حقوقهم ويظن أنه من التوحيد، بل هو من الغلو، ونحن ما أنكرنا إلا إكرامهم لأجل ادِّعاء الألوهية فيهم، أو إكرام من يدعي ذلك ) [مؤلفات الشيخ:5/284].